من المُعالجات الدقيقة إلى الذكاء الاصطناعي: كيف شكّلت 50 عامًا من الابتكار الرقمي اتجاهات الاستثمار الأجنبي المُباشر

6710fb2306654_TL_DIGITAL_FDI_TL_Banner_Website.png
المواضيع: مقالة

حمد راشد النعيمي، مدير إدارة الاستراتيجية بوكالة ترويج الاستثمار

تعود جذور الاقتصاد الرقمي الحالي إلى أكثر من 50 عامًا، وتحديدًا مع اختراع أول معالج دقيق في عام 1971، الذي شكل إنجازًا ثوريًا بدمجه العديد من الأجهزة الطرفية في شريحة واحدة، مما أفسح المجال واسعًا لتطوير أجهزة الكمبيوتر الشخصية، والإنترنت، والهواتف الذكية، والحوسبة السحابيّة التي مثلت جميعها نقاط تحوّل محورية في المشهد التكنولوجي. وعلى الرغم من أن التقنيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء غالبًا ما تُعدُ وليدة الثورة الرقميّة الحالية، إلا أن تطورها كان نتاج عملية تدريجية استمرت لعقود لا تزال تُعيد تشكيل ملامح تطورنا الاجتماعي والاقتصادي.

شهد الاقتصاد الرقمي تحوّلاً جوهريًا في تدفقات الاستثمار الأجنبي المُباشر، حيث استثمرت العديد من دول العالم بكثافة في هذا القطاع، الذي يُمثل حاليًا 15٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، بقيمة إجمالية بلغت 15.2 تريليون دولار في عام 2022 وفقًا لتقارير البنك الدولي. هذا النمو السريع، بمعدل الضعفين ونصف الضعف مقارنةّ بنمو الاقتصاد الأوسع، أدى إلى زيادة تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة في القطاعات الرقميّة من 520 مليار دولار في عام 2010 إلى 653 مليار دولار في عام 2022، بحسب تقرير صادر عن وكالة ترويج الاستثمار في قطر حول الاستثمار الأجنبي المُباشر الرقمي. وتتوقع مؤسسة "فورستر" (Forrester) نمو الاقتصاد الرقمي العالمي من 11.8 تريليون دولار في عام 2023 إلى 16.5 تريليون دولار بحلول عام 2028، مدفوعًا بشكل رئيسي بقطاعات مثل التجارة الإلكترونية والسفر، والتي تتصدرها الأسواق الكبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية والصين.

 

ومع تسارع وتيرة انتشار التقنيات الرقميّة، لا سيما الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابيّة، تُطرح أسئلة أساسية على غرار: كيف تُعيد هذه التقنيات تشكيل تدفقات الاستثمار الأجنبي المُباشر؟ وكيف يُمكن للدول ترسيخ مكانتها في ظل المشهد التنافسي المتزايد؟

الذكاء الاصطناعي: مُحفّز لنمو الاستثمار الأجنبي المُباشر الرقمي

أثار إطلاق شركة "أوبن إيه آي" (Open AI) " لتقنية الذكاء الاصطناعي "جات جي بي تي" (ChatGPT) في أواخر عام 2022 حماسًا كبيرًا واهتمامًا واسع النطاق، وسرعان ما أصبح الذكاء الاصطناعي التوليدي محور اهتمام رئيسي للمُستثمرين وصُنّاع السياسات والجمهور. وعلى الرغم من أن مفهوم الذكاء الاصطناعي يعود إلى خمسينيات القرن الماضي، فإن التطورات الكبيرة التي شهدتها هذه التقنية في السنوات الأخيرة جاء نتيجة لتوفر البيانات الهائلة، وتحسين الخوارزميات، وتطوّر أجهزة الكمبيوتر.

اليوم، يُعد الذكاء الاصطناعي واحدًا من أبرز توجهات الاستثمار التكنولوجي، دون ظهور أي مؤشرات على تراجع زخمه. ووفقًا لتقرير شركة "جلوبال داتا" (GlobalData)، من المتوقع أن يصل حجم سوق الذكاء الاصطناعي إلى 909 مليار دولار بحلول عام 2030، مع تركيز خاص على الذكاء الاصطناعي التوليدي كأحد مجالات النمو الرئيسية. وقد أشار تقرير حديث صادر عن "كرنش باس" (Crunchbase) إلى هذا التوسع، حيث زاد الاستثمار في الشركات الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي إلى 24 مليار دولار في الربع الثاني من عام 2024، وهو ما يُمثل أكثر من ضعف الاستثمار مقارنةً بالربع الأول من العام نفسه. ويعكس هذا النمو الإقبال المتزايد على الذكاء الاصطناعي باعتباره تقنية تحويليّة شاملة تُستخدم في مختلف القطاعات، من أبرزها: الرعاية الصحية، حيث يسهم في تحسين التشخيص، ووضع خُطط العلاج، وكذلك في التصنيع، ويُساعد في تحسين عمليات الإنتاج وإدارة سلاسل التوريد.

الفجوة الاقتصاديّة وتحديات الذكاء الاصطناعي

بالرغم من النمو السريع في مجال الذكاء الاصطناعي، وازدهار الاقتصاد الرقمي، تتسع الفجوة الاقتصادية بين الدول جراء التباين في استراتيجيات واستجابات تبني تقنيات الذكاء الاصطناعي. وتسعى الدول الرائدة في هذا المجال – خاصةً الدول المُتقدمة – إلى تعزيز تفوقها على الدول النامية، التي تواجه تحديات؛ مثل نقص البنية التحتية والقوى العاملة الماهرة المطلوبة لتحقيق الاستفادة الكاملة من مزايا الذكاء الاصطناعي. ويظهر هذا التباين بوضوح في تصدّر الولايات المتحدة الأمريكيّة، والدنمارك، وسنغافورة "مؤشر الاستعداد لتبني الذكاء الاصطناعي" الصادر عن صندوق النقد الدولي إلى استعداد 174 دولة لتبني الذكاء الاصطناعي استنادًا إلى أربعة محاور رئيسية، هي: البنية التحتية الرقميّة، ورأس المال البشري وسياسات سوق العمل، والابتكار والتكامل الاقتصادي، والتنظيم والأخلاق المهنيّة.

وفي ظل تزايد المخاوف من اتساع الفجوة بين الدول، تبرز الحاجة المُلحة إلى التعاون الدولي لتحسين القوانين، والاستثمار في البنية التحتية الرقميّة، وتنمية المهارات الرقميّة، والتخفيف من المخاطر المُحتملة للذكاء الصناعي. ويُشكل هذا الموضوع المحور الرئيسي لمعرض "جيتكس 2024"، أحد أكبر المعارض التكنولوجية في العالم.  ويُركز المعرض الذي يُقام تحت عنوان "التعاون العالمي لصياغة اقتصاد الذكاء الاصطناعي المستقبلي" على الحاجة الماسة لتضافر الجهود الدوليّة لتشكيل مشهد اقتصادي أكثر تكاملاً وابتكارًا وذكاءً، كما يسلط المعرض الضوء على النمو المُتسارع للذكاء الاصطناعي والفرص التي يتيحها في مختلف القطاعات، مع التركيز بشكل خاص على منطقة الشرق الأوسط ودول مجلس التعاون الخليجي.

دول مجلس التعاون الخليجي والذكاء الاصطناعي

إدراكًا للإمكانات الهائلة للاقتصاد الرقمي، أطلقت العديد من دول مجلس التعاون الخليجي استراتيجيات طموحة في مجالي الذكاء الاصطناعي والتحوّل الرقمي. في دولة قطر، يُشكل التحوّل الرقمي ركيزة أساسية لاستراتيجية النمو الاقتصادي. وتسعى الدولة إلى إسهام الأجندة الرقمية 2030، التي تم إطلاقها مؤخرًا، بمبلغ 40 مليار دولار في الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي، وخلق 26,000 فرصة عمل جديدة في قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بحلول عام 2030. ويُعزز هذا الاتجاه الاستثمارات الضخمة التي تضخها الدولة في هذا المجال، مع توقعات بوصول الإنفاق السنوي على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات إلى 6.2 مليار دولار بحلول عام 2026، بمعدل نمو سنوي مركب يبلغ 9.2٪. وتُعد المشاريع الكُبرى؛ مثل منطقة جوجل السحابيّة، ومركز بيانات مايكروسوفت السحابيّة، ومدينة لوسيل الذكيةّ دليلاً ملموسًا على جاذبية قطر كمركز تكنولوجي رائد للمُستثمرين الأجانب.

ومن المبادرات التي شهدتها المنطقة مؤخرًا إطلاق العديد من المُسرّعات والحاضنات التي تُركز على الذكاء الاصطناعي، وتطوير استراتيجيات وطنية للبيانات والذكاء الاصطناعي.

النظرة المستقبليّة

انسجامًا مع عنوان معرض "جيتكس 2024"، يتعين علينا مواصلة العمل المُشترك لتشكيل اقتصاد مُستقبلي للذكاء الاصطناعي يكون مبتكرًا وشاملاً ومُستدامًا. ومن خلال الاستثمارات الاستراتيجية، والسياسات المُحكمة، والتعاون يُمكننا تحقيق الإمكانات الكاملة للاقتصاد الرقمي وبناء مستقبل يستفيد منه الجميع.


تشارك هذه المقالة