الإقبال على الاقتصاد الدائري: تغيّرات جذرية وفرص لتحقيق نقلة نوعية في منطقة دول مجلس التعاون الخليجي
28 أغسطس 2022
ظهر مصطلح “الاقتصاد الدائري” في خضم الانكماش الاقتصادي العالمي الناجم عن جائحة كوفيد-19، حيث تجددت الدعوة إلى تعزيز سُبل التعاون العالمي من أجل إيجاد نموذج اقتصادي جديد ليحل محل نموذج الاقتصاد التقليدي. وقد أدى اتباع النموذج التقليدي في مجالات التصنيع على مر السنين، والمعروف اختصارًا "خذ – صنّع – تخلص" إلى الإفراط في استهلاك المواد الخام، الأمر الذي أسفر عن الاستخدام غير الأمثل للموارد المتاحة.
ومع مواصلة اتباع هذا النموذج التقليدي، يستمر استنفاد المواد الخام ومصادر الطاقة، مع زيادة معدلات انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، بسبب تزايد عدد سكان العالم، وتفاقم الطلب على الموارد والتي أصبحت محدودة. وبدأت تظهر الأزمات البيئية وتتحول إلى واقع شائك وملموس، مما يجعل التحوّل إلى نموذج اقتصادي أكثر استدامة أولوية للحكومات والشركات والمواطنين في جميع أنحاء العالم. ومن خلال تقييم جميع المقترحات والنظر في المسارات البديلة لإيجاد نموذج اقتصادي أكثر استدامة ومحافظ على البيئة، يبرز الدور الرئيسي الذي يقوم به الاقتصاد الدائري، إذ أنه يُعد النموذج الواعد لتحقيق فوائد ومنافع اقتصادية واجتماعية وبيئية ملموسة. ويستند هذا النموذج إلى مبدأ (R3)، أي ترشيد الاستهلاك وإعادة الاستخدام وإعادة التدوير. وبفضل استخدام هذا النموذج، ستتوفر فرص هائلة، لا تقتصر فقط على جني الأرباح، بل وستتجاوزها لتعم الفائدة على عدد كبير من سكان العالم.
تسليط الضوء على فوائد الاقتصاد القائم على ترشيد استهلاك الموارد والتجديد
خلال المنتدى الاقتصادي العالمي الذي عُقد في دافوس هذا العام، كان موضوع النقاش الرئيسي هو كيف يمكننا تجنب وقوع الأزمة التالية؟ ولا تزال الظروف الاقتصادية الحالية، وعدم الاستقرار التجاري، وارتفاع وتيرة التوترات الجيوسياسية، تفرض تحديات عديدة على نماذج الأعمال التقليدية. الأمر الذي يفسر بوضوح زيادة الإقبال على نموذج الاقتصاد الدائري.
مما لا شك فيه أن تطبيق هذا النموذج سيحقق فوائد عديدة منها، على سبيل المثال لا الحصر، تعزيز الاستخدام الرشيد والفعال للموارد، والحد من زيادة الطلب على الموارد المحدودة، إضافة إلى تحسين مرونة سلاسل التوريد، وتعزيز النمو الاقتصادي. هذا ومن المتوقع أن يسهم التحول نحو الاقتصاد الدائري في خلق فرص نمو عالمية تصل قيمتها إلى حوالي 4.5 تريليون دولار بحلول العام 2030، وفقا لما جاء في تقرير أعدته أكسنتشر.[1] وفي يونيو من العام 2020، أيّد ما يزيد على 50 من القادة والرؤساء التنفيذيين العالميين اتباع نموذج الاقتصاد الدائري باعتباره حلاً عمليًا من أجل "إعادة البناء على نحو أفضل"، والتعافي الأخضر والمستدام من تداعيات جائحة كوفيد-19. ونتيجة لذلك، فقد زادت الأصول في صناديق الأسهم العامة التي تركز على الاقتصاد الدائري من 0.3 مليار دولار إلى ما يزيد على 2 مليار دولار، مما يُمثل قفزة نوعية بمقدار ستة أضعاف، وفقًا لما جاء في تقرير أعدته مؤسسة إلين ماك آرثر.
وعلى غرار الشركات التي تأسست رقمياً وأحدثت تغييرًا جذريًا في مجال نماذج الأعمال التقليدية، من المرجح أن نشهد ارتفاعًا في تأسيس الشركات الدائرية (أي تلك التي تأسست في ظل نموذج الاقتصاد الدائري)، ما سيُسهم في إحداث تغيّر جذري في نموذج الاقتصاد الخطي التقليدي. وحتى يتم اتباع نموذج الاقتصاد الدائري على نطاق واسع عالميًا، يتعيّن تعزيز سبل التعاون الدولي من أجل التغلب على حواجز المرحلة الانتقالية مثل التخلي عن نماذج الأعمال التقليدية، وشطب الأصول القائمة على النموذج الخطي، وإعادة تشكيل سلاسل التوريد الحالية القائمة على النموذج الخطي.
تسارع وتيرة التحول إلى الاقتصاد الدائري في دول مجلس التعاون الخليجي
انطلاقًا من الحاجة الملحة إلى التحوّل من نموذج النمو الاقتصادي القائم على الهيدروكربونات إلى النماذج الاقتصادية المستدامة، شهدت دول مجلس التعاون الخليجي تطورًا ملحوظًا ومتسارعًا في جميع جوانب الحياة، مدعومًا بتمويل حكومي قوي. كما شهدت المنطقة إطلاق برامج التنويع الاقتصادي القائمة على تطوير قطاعات وأنشطة دائرية جديدة، مثل إدارة النفايات، والصيانة والإصلاح، وإعادة التصنيع، وعمليات إعادة التدوير المتقدمة، وما إلى ذلك.
وفي قطر، تم إرساء الركائز الأساسية للاقتصاد الدائري بالفعل. وتجدر الإشارة إلى أن جهود قطر للتحوّل إلى نموذج اقتصاد أكثر استدامة تنبع من صميم رؤيتها الوطنية 2030، وتشمل استراتيجية تغير المناخ والمدن الخضراء والأهداف الوطنية لكفاءة الموارد وإدارة النفايات. ولا شك أن تطوير أحدث المدن الصديقة للبيئة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر مدينة لوسيل ومشيرب، بالإضافة إلى استضافة أول بطولة كأس عالم لكرة القدم محايدة الكربون في عام 2022، وطرح حلول أنظمة النقل الصديقة للبيئة، هي بعض معالم الإنجازات البارزة التي تدفع قطر إلى الأمام، وتضعها في وضع متميز لمواصلة تعزيز جهودها في مجال ترشيد الاستهلاك وتعزيز كفاءة الموارد، وإنشاء الاقتصاد الدائري.
يوضح تقرير سياسة الاقتصاد الدائري الأخير، الذي أعدته وكالة ترويج الاستثمار في قطر، أن بإمكان دول مجلس التعاون الخليجي توفير ما يصل إلى 138 مليار دولار بحلول العام 2030 عند تطبيقها لنموذج الاقتصاد الدائري في الفترة من العام 2020 إلى العام 2030. بالنسبة لقطر على وجه الخصوص، يُقدر التقرير تحقيق 17 مليار دولار إضافية بحلول العام 2030، أي ما يعادل 10٪ من إجمالي الناتج المحلي الحالي للدولة. كما يسلط التقرير الضوء على أن نموذج الاقتصاد الدائري يمكن أن يُسهم في خلق 9000-19000 فرصة عمل في دولة قطر وحدها بحلول العام 2030، بالإضافة إلى زيادة الدخل، وجذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية المباشرة في القطاعات الجديدة مع تحوّل أنظار العالم نحو الاستثمار المستدام. وبنفس القدر من الأهمية، فإن ذلك سيسمح لقطر بتحقيق التوازن الأمثل بين النمو الاقتصادي والحفاظ على البيئة.
دفع مسيرة التحول إلى الاقتصاد الدائري لدول مجلس التعاون الخليجي
يتعيّن النظر إلى القطاعات غير النفطية ذات الإمكانات الواعدة والعالية، بما في ذلك مصادر الطاقة المتجددة والمياه والغذاء والبيئة الحضرية والنقل وإدارة النفايات، واستخدامها في مشاريع ومبادرات تجريبية دائرية من أجل تسريع عملية التحول نحو الاقتصاد الدائري في جميع أنحاء دول مجلس التعاون الخليجي. ومع ذلك، فإن التحوّل نحو الاقتصاد الدائري يستلزم إجراءات أكثر من مجرد تصميم بعض المنتجات المتميزة وإعادة تدوير النفايات. إذ أنه يتضمن تغييرًا جذريًا في العلاقات بين الشركات وعملائها. ومن هذا المنطلق، لا يمكن تغيير النموذج الخطي التقليدي إلا من خلال العمل المشترك والتعاون.
بالإضافة إلى ذلك، يُشدد التقرير الذي أعدته وكالة ترويج الاستثمار في قطر على الحاجة إلى الاستخدام الأمثل للحلول التكنولوجية مثل الثورة الصناعية الرابعة لأغراض تحسين العمليات، وتعزيز سبل التعاون الإقليمي في مجال الاقتصاد الدائري، مع تحسين القدرة التنافسية، بالإضافة إلى تحقيق التنمية المستدامة أولاً وقبل كل شيء.
[1] https://www.weforum.org/impact/helping-the-circular-economy-become-a-reality/