إعادة تشكيل ملامح التنمية الاقتصادية: الأهمية الإستراتيجية للعلاقة بين الحكومات والشركات في الاقتصادات الحديثة
25 نوفمبر 2024
بقلم: د. أيمن آدم محب، رئيس إدارة الإستراتيجية بوكالة ترويج الاستثمار في قطر
بروز توجهات جديدة في التعاون بين القطاعين العام والخاص
يشهد الاقتصاد العالمي تحوّلاً جذريًا في العلاقة بين القطاعين العام والخاص، مدفوعًا بتزايد التعاون بين الجانبين لتحقيق الأهداف المشتركة في مجالات الابتكار، والاستدامة، والمرونة الاقتصادية. في السابق، كانت النقاشات التجارية تُركز على ديناميات العلاقة التجارية بين الشركات (B2B)، والعلاقة بين الشركات والمُستهلكين (B2C)، وبنفس القدر من الأهمية العلاقة بين الحكومة والشركات (G2B). بينما تشمل نماذج العلاقة التجارية بين الشركات، وبين الشركات والمُستهلكين بشكل أساسي استراتيجيات السوق والعلاقات مع العملاء، فإن نطاق نموذج العلاقة بين الحكومات والشركات أوسع بكثير، فهو يشمل عدة مجالات مثل الدعم التنظيمي، الحوافز المالية، والشراكات بين القطاعين العام والخاص. وتقوم العلاقة بين الحكومات والشركات بدور كبير في إعادة تشكيل التنمية الاقتصادية في مختلف الاقتصادات، وتشمل العلاقة مجموعة متنوعة من الأطراف وأصحاب المصلحة، منها الجهات الوطنية والكيانات دون الوطنية (انظر الشكل 1).
أدت جائحة كوفيد-19 إلى تسريع وتيرة هذا التحوّل، مما دفع الحكومات إلى زيادة التعاون مع القطاع الخاص من أجل تحفيز النمو، وضمان المرونة، وتعزيز الابتكار لمواجهة التحديات والتداعيات غير المسبوقة للجائحة. كما عززت الجائحة أيضًا دور الحكومات كشريك استراتيجي للقطاع الخاص، من خلال وكالات ترويج الاستثمار ومجالس التنمية الاقتصادية، لدفع عجلة الابتكار ودعم الأهداف الاقتصادية والاجتماعية الأوسع.
الشكل 1: إطار عمل لأنماط علاقات الحكومة مع الشركات، والشركات مع الحكومة، والعلاقات التجارية بين الشركات، والشركات مع المُستهلكين
أيمن أدم محب (2024). إطار عمل مرئي يوضح التركيز والأهداف المُقارنة لعلاقة الحكومة مع الشركات (G2)، وعلاقات الشركات مع الحكومة (B2G)، والعلاقات التجارية بين الشركات (B2B)، وعلاقات الشركات مع المُستهلكين (B2C)
الدور المُتطوّر للعلاقة بين الحكومة والشركات
أصبحت الشراكات بين الحكومات والشركات في فترة وجيزة ركيزة أساسية في الاستراتيجية الاقتصادية الحديثة، وباتت نماذج هذه الشراكات تتجاوز العلاقات التجارية التقليدية القائمة بين الشركات، وكذلك العلاقات بين الشركات والمُستهلكين، التي تركز بشكل أساسي على تحقيق الأرباح والعلاقة مع العميل. في المقابل، يُعد نموذج العلاقة بين الحكومات والشركات محركًا رئيسيًا للابتكار، والمرونة، والتنمية المُستدامة، بما يتماشى مع الأهداف الأوسع للسياسات العامة. وفي هذا السياق يقول جوزيف ستيغليتز، الحائز على جائزة نوبل: "علينا تحقيق التوازن بين اليد الخفية للسوق واليد المرئية للحكومة." وحاليًا، تضطلع الحكومات بدور متزايد في تشكيل المزايا التنافسية، وتعزيز رفاهية المجتمع، ودعم الاستدامة على المدى الطويل، وهو ما يسهم في سد الفجوات التي تعجز الشركات الخاصة عن معالجتها بمفردها (انظر الجدول 1).
تتفرد الحكومات بقدرات لا تتوفر لدى القطاع الخاص، حيث يمكنها اتخاذ إجراءات لمعالجة الفجوات النظامية في الأسواق سواء على مستوى البنية التحتية أو التنظيم أو الاحتياجات المجتمعية، مما يسهم في بناء أساس قوي لاقتصادات أكثر تنافسية ومرونة.
الجدول 1: تحليل مُقارن للعلاقات بين الحكومات والشركات، وبين الشركات والحكومات، والعلاقات التجارية بين الشركات، وبين الشركات والمُستهلكين
أيمن أدم محب (2024): خصائص العلاقة بين الحكومة والشركات، والعلاقة بين الشركات والحكومة، والعلاقة التجارية بين الشركات، والعلاقة بين الشركات والمُستهلكين
التحديات التي تواجه تطبيق نموذج العلاقة بين الحكومة والشركات
على الرغم من الإمكانات الكبيرة التي تتمتع بها العلاقة بين الحكومة والشركات، بيد أن هناك تحديات تحول دون تنفيذها بشكل فعّال. من أهم هذه التحديات، إيجاد التوازن بين التشريعات والابتكار، فالإفراط في القوانين قد يؤدي إلى تقييد الإبداع ويعوق تبني التكنولوجيا، في حين أن نقص القوانين قد يؤدي إلى اختلال السوق وعدم الاستقرار الاقتصادي. لذلك، من الضروري أن تسن الحكومات قوانين وتضع لوائح تُوازن بين تشجيع الابتكار وضمان استقرار السوق في آنٍ واحد.
هناك أيضًا تحدٍ آخر يتمثل في ضمان الوصول العادل إلى الدعم الحكومي، خاصةً بالنسبة للشركات الصغيرة والمتوسطة التي تُعد العمود الفقري للعديد من الاقتصادات، فهذه الشركات غالبًا ما تواجه صعوبات في جني فوائد المُبادرات الحكومية الرامية لتوطيد العلاقة بين الحكومة وقطاع الأعمال بسبب المعوقات البيروقراطية، وصعوبة الوصول إلى التمويل. ولضمان تحقيق الفوائد المنشودة من العلاقة بين الحكومة والشركات، يجب اتخاذ تدابير مُوجهة خصيصًا لدعم الشركات الصغيرة والمتوسطة.
وتُشكل العولمة تحديًا إضافيًا، حيث تجد الحكومات صعوبةً في الموازنة ما بين رسم سياسات تناسب اقتصاداتها المحلية، والحفاظ على قدرتها التنافسيّة في الأسواق العالمية. ويتطلب تجاوز هذا التحدي وضع أطر عمل مرنة تُلبي الاحتياجات المحلية وتتوافق مع التوجهات الاقتصادية العالمية.
نماذج علاقات التعاون بين الحكومات والشركات في دول مجلس التعاون الخليجي وخارجها
تكتسب الشراكات بين الحكومات والقطاع الخاص أهمية مُتزايدة في تشكيل ملامح الاقتصادات الحديثة. تجني دول مثل الصين وكوريا الجنوبية فوائد كبرى من المُبادرات واسعة النطاق الرامية لتشجيع الابتكار ودفع النمو. على سبيل المثال، يستثمر برنامج "صنع في الصين 2025” أكثر من 300 مليار دولار لتطوير القاعدة الصناعيّة، وفي كوريا الجنوبية يُعد برنامج "الصفقات الرقمية الجديدة"، بقيمة 58 مليار دولار، نموذجًا آخر للتعاون الهادف إلى تعزيز بيئة الشركات الناشئة وتحقيق التحوّل الرقمي. وعلى صعيد دول مجلس التعاون الخليجي، تُعد قطر مثالاً على كيفية استخدام العلاقة بين الحكومات والشركات لتحقيق التحول الاقتصادي الاستراتيجي. ومنذ إطلاق رؤية قطر الوطنية 2030، تم اتخاذ خطوات ملموسة لتحسين بيئة الأعمال، وتنويع الاقتصاد، وتعزيز القُدرة التنافسيّة على المستوى العالمي. ويعمل المجلس الأعلى للشؤون الاقتصادية والاستثمار على ضمان مواءمة السياسات الحكومية مع الأهداف الوطنية للدولة في مجالات مثل الاستدامة، والابتكار، وخلق فرص عمل تتطلب مهارات عالية. وتستهدف الاستراتيجية الوطنية الثالثة للتنمية جذب استثمارات أجنبية مباشرة بقيمة 100 مليار دولار بحلول عام 2030، وإنشاء تسع تجمعات اقتصادية رئيسية، والتأكيد على الاستدامة لتحقيق أهداف في عدة مجالات، منها على سبيل المثال خفض انبعاثات الغازات الدفيئة بنسبة 25%، ورفع إنتاجية القوى العاملة بنسبة 2% سنويًا.
علاوةً على ذلك، يسهم جهاز قطر للاستثمار في دعم الاستثمارات المحلية وبرامج التوطين، فقد أطلق في العام الحالي 2024 برنامج "الصندوق القابض" بقيمة مليار دولار بهدف تطوير منظومة رأس المال الجريء ودعم رواد الأعمال على المستويين المحلي والإقليمي. كما تعمل وكالة ترويج الاستثمار على تطبيق استراتيجية الاستثمار الأجنبي المباشر لتحفيز الابتكار التكنولوجي، ودعم مُشاركة القطاع الخاص من خلال تعزيز الخبرات، وبرامج الحوافز والمنصات الرقميّة مثل روبوت المُحادثة"Ai.SHA" ، ومنصة "ابدأ من قطر"، و"بوابة وكالة ترويج الاستثمار".
مستقبل التعاون بين الحكومات والشركات
سيعتمد مستقبل التعاون بين الحكومات والشركات على قدرة هذا التعاون في تعزيز الابتكار، والاستدامة، والمرونة في القطاعات الحيوية مثل الطاقة المُتجددة، والبنية التحتية الرقميّة، والصناعات المُتقدمة. ومع تحول دور الحكومات من مجرد جهات تنظيمية إلى شركاء استراتيجيين، سينصب الاهتمام على وضع أطر عمل مرنة قادرة على مواجهة التحديات العالمية وتلبية الاحتياجات الاقتصادية المحلية.
ستُعطي الشراكات الناجحة بين الحكومة والشركات الأولوية لإشراك جميع أصحاب المصلحة والأطراف المعنية، بما في ذلك الشركات الكبرى والصغرى لضمان استفادتها القصوى من هذه الشراكات. لكن في نهاية المطاف، ستعتمد كفاءة وفعالية نماذج التعاون بين الحكومة والشركات على مدى قدرة هذه النماذج على تحقيق التوازن بين الابتكار والرقابة التنظيميّة، وخلق بيئات تُحفّز النمو المُستدام على المدى الطويل.